معاشر المؤمنين:
يا من تحملون بين جوانحكم قلوبًاً قد امتلأت كمدًاً وألماً على حال
إخوانكم في الشام. يا من تحجرت دموعكم في مآقيها، وذرفت مدراراً على قوافل
الشهداء، ومناظر الأشلاء، وشلالات الدماء.
يا من تنغصت حياتكم، وتكدر عيشكم، وتفطَّرت قلوبكم على شعب يحكم عليه بالإعدام والحصار والتجويع.
يا أيتها النفوس المؤمنة الطيبة تعالوا نورد القلوب شيئًاً من عِبر
القرآن، وهدايات الذكر الحكيم، نستلهم شيئاً من معانيها، ونتدارس بعضاً من
فقهها حتى نكون في إبًّانِ الأزمات كما يريد ربُّ الأرض والسموات.
نقف مع نبأٍ من أنباء الغيب، وقِصة من القصص الحق، مليئة بالدروس، مشحونة بالعبر، {
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
فأحداث الله في أرضه ليست وقائع ماضية، بل سنن باقية حاضرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ. وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ. قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج:1-4].
من هم أصحاب الأخدود؟ ما دينهم؟ ما خبرهم؟
من قَتلوا؟ ولماذا قَتلوا؟ وكيف قَتلوا؟ وما حال من قُتِلوا؟
أسئلة كثيرة، استعرضتها سورة البروج القصيرة، التي نزلت على قلب سيد
المرسلين في مكة في حال الاستضعاف والابتلاء في الدين، يوم أن كان الصحابي
يستفزع النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويستنصرُه (ألا تدعوا الله لنا؟)،
فيأتيه الجواب: «
إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
لَيُمْشَطُ أَحَدُهُمْ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ
لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ
الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا
يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ
حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ
إِلاَّ اللَّهَ».
نزلت هذه الآيات في مكة ليتربى المؤمنون على هذه المعاني الجليلة، في
الفدائية، والاستعلاء بالدين، والوقوف في وجه الطغاة المستبدين، وبيان
حقيقة الانتصار، والتصبر على الألم واللأواء، وأن طريق الإيمان مرير.
لا يهمنا أين كان أصحاب الأخدود، ولا متى عاشوا، وإنما الأهم كيف عاشوا، وكيف حكى القرآن خبرهم، وفصل فيه.
أما إيمان أهل هذه القرية فقد كان في أفراد قليلين، ومستخفين أيضاً، خوفاً
من بطش ملوكهم وحكامهم الذين كانوا على الإشراك، فسلبوا من الناس حرية
اعتقادهم، وخوفوهم بسلطانهم تغيير دينهم.
وكان ممن آمن غلام صغير قص علينا نبينا صلى الله عليه وسلم خبره في حديث
طويل، تربى هذا الغلام على يد راهب في صومعته، وتلقى عليه دروسًاً في
الإيمان والتوحيد والثبات.
ودارت الأيام فابتلي هذا الغلام على يد الطغاة المتجبرين، وثبت على دينه ومبادئه حتى قُتل وسفك دمه من أجلها.
نعم لقد ضحَّى غلام الأخدود من أجل مبادئه، فتأثر لتضحيته أُلوف مؤلفة من
قومه، فآمنوا بربهم، ولامس الإيمان بشاشة قلوبهم، فوحَّدوا بعد إشراكهم،
وآمنوا بعد كفرهم.
هنا تحركت عقارب الطغيان في صدور المتجبرين، فحاولوا منعهم بسياسة التخويف
والتهديد، فتمنَّعت الفئة المؤمنةُ بعقيدتها، فثبتت ثبات الجبال الراسيات،
فالدين لا يعلوا فوقه شي، فلم تهتز، ولم تتراجع، ولم تتنازل رغم ألوان
التضييق، بل التعذيب والتنكيل الذي لا يُطاق.
لقد قست قلوب هؤلاء الطغاة فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم يُبالوا بعدها
بدم الإنسان، وكرامة الإنسان، وحقِّه في أن يعيش حُراً في دينه واعتقاده.
نعم... دخلت تلك الفئة المؤمنة المستضعفة معركتها مع الطغيان، سلاحها
الإيمان، غايتها رضا الرحمن، يقينها فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة
الدنيا.
أما الطغيان فاختار طريق التصفية الجسدية، والإبادة الجماعية، في صور لا تصدر حتى من الوحوش الكواسر.
فخدوا الأخاديد، واضرموها ناراً، وقد ملئت قلوبهم غيضاً وناراً، وما أشد عذاب النار، ما أشد الموت بالنار.
نزعت من قلوب هؤلاء الرحمة فلم تُحرِّكها مناظر البكاء، ولا توسلات الضعفاء، ولا نحيب النساء.
غضبت رموز الطغيان، وغضبت لغضبتها زبانيتها، ومرتزقتها، وبلطجيتها،
وشبيحتها، ففتكت بهذه الفئة المؤمنة، والتي كانوا يتعايشون معهم في أرض
واحدة {
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
تأمل في التعبير القرآني، فبعد قوله {
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، قال سبحانه {
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}،
فلا يجري شيء في الأرض إلا بإرادة الملك سبحانه، إن قَدِر هؤلاء وأطغاهم
المُلْك للتسلط على الضعفة المؤمنين؛ ففوقهم ملك يملك الأرض كلها، والسموات
فوقها.
هذا الملك لو يشاء لانتصر من هؤلاء الطغاة الظلمة الجبارين، ولكنْ ليبلوا
بعضكم ببعض، ولكنْ ليعلم سبحانه المؤمنين من الكافرين والمنافقين، ولكنْ
ليتخذ سبحانه من الأمم شهداء، والله يحب الصابرين.
هذا الملك خلق الجنة، وأعد فيها منازل عليا، لا يبلغها إلا أهل هذه
التضحيات العليا، هذا الملك لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وسِع
سمعه الأصوات، سمع آهات المظلومين، سمع أنات المكلومين، سمع حنين الخائفين
الوجلين، سمع ذلك كلَّه، وشهد على ذلك كلِّه، {
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الفرقان: 9].
إنها رسائل سماوية تطمئن القلوب المؤمنة، وتقذف فيها شحنات من اليقين، والتوكل، والصبر والمصابرة.
قُتل أهل الإيمان في أخاديدهم، وتفحَّمت جثثهم، حُرِّق الرجل وأخيه،
وسُجِّر المرء مع أمه وأبيه، وتلهَّمت النارُ الزوجَ وصاحبتيه وبنيه.
رحل هؤلاء من دنياهم، عُذِّبوا وقُتِّلوا، ونُكَّل بهم وحُرِّقوا، ولكن هل انتهت حياتهم؟ وهل انطمس ذكرهم؟ وهل نسي أثرهم؟
في حساب الأرض يبدوا أن النصر واضح، وأن معركة الصراع حُسمت لصالح الطغاة،
فبقوا في دنياهم يتنعمون؛ ولكنْ في حساب السماء مقادير أخرى، ومنح عظمى،
في حساب السماء أن هذه الفئة المؤمنة ما انتهت حياتهم، بل هم أحياء، عند
ربهم يرزقون، وأنَّ تقلُّب الطغاة في البلاد قليل، ومتاعهم فيها زهيد، ثم
مأواهم جهنم، وبئس المصير.
في حساب الأرض أن هؤلاء أُبيدوا، فلا أثر لهم بعد النار، وفي حساب السماء
أنَّ هذه الفئة أصبحت رمزاً ومثلاً لكل فئة مؤمنة تُضطهد في عقيدتها،
وتُؤذى في دينها، فهل أثر أعزُّ وأشرف من أن يُسطَّر خبرهم في كتب الله،
ويردد اسمهم على ألسنة أنبياء الله؟.
في حساب الأرض أنًّ هذه الفئة ذُلَّت وأهينت، وفي حساب السماء أن هذه
الفئة ماتت عزيزة كريمة من أجل مبادئها، فاستحقت وساماً خالداً سامقاً،
الذل الحقيقي في حساب السماء أن يبيع المرء دينه ومبادئه من أجل لُعاعة
يتنعم بها.
ليس الذل في موت الإنسان، كل نفس ذائقة كأسَ الموت، اختلفت أسباب هذا
الكأس والموت واحد، ولكن فرق بين موت وموت، فرق بين أرواح تموت فكأنها ما
كانت، وأرواح تموت فيُعلو ذكرها، ويحفر في صخرة الزمان اسمها.
الفوز والانتصار الحقيقي ليس هو الفوز في هذه الحياة الدنيا، الفوز الخالد
الباقي هو فوز الآخرة، في الحياة الأبدية التي لا خوف فيها، ولا حزَن ولا
نصب {
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20].
وبعد مشهد التعذيب والتسلُّط من الطغاة تأتي الرسائل من الجبار الواحد
القهار لجبابرة الأرض الذين استخفوا بالدماء، واسترخصوا أرواح الأبرياء
لأجل نعيم زائل، وملك لا يدوم، فيقول سبحانه: {
إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.
كرر سبحانه التعذيب بالحريق مع أنَّ جهنم كلَّها حريق في حريق ليخبرهم أن
جزاءهم جزاءً وفاقاً، فكما عذبوا المؤمنين بالنار، فمآلهم يوم الدين إلى
نار، ولكن شتان بين نار ونار.
وبعد أن تكاملت صورة الحدث في الدنيا، ومصير كل فريق في الآخرة، يُعقِّب المولى سبحانه على ذلك بقوله: {
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}،
فهؤلاء الذين استخدموا سياسة البطش في الدنيا، يبقى بطشهم ضعيف هزيل، فهو
بطش في رقعة محدودة، ومدة مُحدّدة، وأما البطش الشديد فهو البطش الدائم
الباقي مع كل المعرضين المكذبين، ثم ذكر سبحانه صور البطش التي ذاقتها
الأمم السابقة {
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}، هذا بطش الجبار في الدنيا، وأما في الآخرة فهو بطش لا يطاق، {
وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127].
ونلاحظ في آيات البروج أن الله سبحانه لم يذكر عقوبة الطغاة في الدنيا،
وهذا لحِكمٍ يريدها الحكيم، فليس كل طاغية حقُّه أن يُعذَّب في الدنيا، {
وَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّـهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ}
[يونس: 46]، بل يتركه الله سبحانه طغاة الأرض يستمرون في الإجرام، ويوغلون
في الدماء ليزدادوا إثماً وفجوراً، حتى تكون عقوبتهم مضاعفة في الآخرة. {
لَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُّهِين}
الأحد مارس 25, 2012 11:24 am من طرف إسماعيل المحسن