حينما يرى الإنسان هذا الكون ، وما فيه من عظمة لا تنتهي ، كأن هذا الكون يشف عن إله عظيم ، هذا الإله قوي ، وغني ، ورحيم ، وحكيم ، وكمال الخلق يدل على كمال التصرف ، فلا بد لهذا الإله العظيم من أن يرسل إلى عباده رسلاً ، ولا بد لهذا الإله العظيم من أن ينزل على رسله كتباً ، بين أيدينا كلام الله عز وجل ، هذا الكتاب يعرفنا بحقيقة الكون ، وحقيقة الحياة ، وحقيقة الإنسان ، ويأمرنا بعبادات كي نشحن بها متصلين بالله عز وجل .
الصيام أحد هذه العبادات ، ويمكن أن أعرج قليلاً على أن العبادات منها ما هو تعاملي ، كالصدق ، والأمانة ، والعفة ، والوفاء بالوعد ، وإنجاز العهد ، ومنها ما هو شعائري ، كالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة .
فالصلاة شحنة إلى الصلاة التالية ، وصلاة الجمعة شحنة إلى الأسبوع القادم بينما الصيام شحنة سنوية ، في هذا الصيام يدع الإنسان المباحات ، يدع الطعام والشراب ، يدع ما هو مباح له في أصل الشريعة ، فلأن يدع ما هو محرم عليه من باب أولى .
ذلك أن العبادة في أصلها طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
الإنسان يبحث عن سلامته وسعادته ، يشقى حينما يضل الطريق ، بل إن أزمة أهل النار في النار أزمة علم فقط .
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
( سورة الملك )
هذا الكيان البشري لا يسلم ولا يسعد إلا إذا طبق تعليمات الصانع ، هذا الخالق العظيم له تعليمات ، وما من آلة بالغة التعقيد غالية الثمن ، عظيمة النفع إلا معها تعليمات التشغيل والصيانة ، والإنسان أعقد آلة على وجه الأرض ، فحينما يتعرف الإنسان إلى خالقه ويتعرف من خلال الكتب التي أنزلها ، إلى سر وجوده ، و إلى غاية وجوده ، وإلى مهمته في الحياة الدنيا ، وإلى أنه يحمل رسالة ينبغي أن يؤديها ، حتى يسعد في جنة عرضها السماوات والأرض ، الإنسان حينما يتيقن أنه مخلوق للجنة يحرص على طاعة الله ، ويتقي أن يعصي الله ، بل يبني حياته على العطاء ، يقول الله عز وجل :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾
( سورة الليل )
كلام دقيق جداً الناس على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم وأنسابهم ، وطوائفهم ، ودياناتهم ، لا يزيدون عن نموذجين عند الله عز وجل ،
﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
صدق أنه مخلوق للجنة ، فاتقى أن يعصي الله ، وبنى حياته على العطاء .
الطرف الآخر كذب بالحسنى ، كذب بالجنة وآمن بالدنيا .
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾
( سورة الروم )
لما كذب بالجنة ، وآمن بالدنيا استغنى عن طاعة الله ، وبنى حياته على الأخذ .